التراجع الحضاري
للكثير من المفكرين والأكاديميين، نظرياتهم العلمية وتصوراتهم في تفسير أسباب التراجع الحضاري للأمم والشعوب، وهي في جوانب كثيرة تنطبق على بعض الشعوب دون أخرى، ولكن ثمة علاقة سببية لم تحظَ، في رأيي، بالاهتمام الذي تستحقه في الوقت الراهن، وهي علاقة جماعات الإسلام السياسي بحالة التراجع الحضاري والثقافي الذي تشهده أمتنا العربية.
بعض الكتاب والمنظرين يعتبرون أن الواقع في العديد من الدول العربية- على مستويات شتى- يعاني «جائحة» قد تذهب بالأخضر واليابس، بسبب تكلس العقول وتحجرها وظلاميتها في عصر تزداد فيه العقول من حولها توهجاً وانتعاشاً، وبسبب استخدام الدين بدلاً من خدمته، وبسبب هشاشة ثقافية ورداءة تعليمية وتغييب للفكر النقدي واستغراق في الغيبيات واستحضار كل مقومات التخلف والزج بها في أتون نقاشات عبثية تشغل الإعلام والتعليم، والكثير مما يعتبر أنشطة ثقافية في هذه الدول.
لقد أنتج استغراق الكثيرين في فكر جماعات الماضي، غشاوة فكرية باتت تفصل بينهم وبين رؤية الحقائق وفهمها فهماً صحيحاً، وبدلاً من أن يكون الدين سبباً في التقدم والرقي الحضاري، كما كان في عهود سابقة للإسلام، بات أحد محركات الفتن والاضطرابات والزج بالأوطان في حالة مزمنة من الفوضى وعدم الاستقرار. وفي اعتقادي الشخصي أن تنظيمات الإسلام السياسي تمتطي «حصان طروادة» المسمى الدعوة إلى الديمقراطية والإصلاح السياسي في الدول العربية من أجل تحقيق حلمها السياسي بالعودة إلى صيغ الحكم الماضي، وهي تدرك تماماً ما في كلمة «الديمقراطية» من سحر وطاقة كامنة تجذب أفئدة الشباب، ومن ثم أثق بأن الدعوات إلى الديمقراطية والحرية ليست نابعة من تصورات سياسية ليبرالية، بل هي انتهازية سياسية بامتياز، تمضي وفق منطق تكتيكي بارد.
لماذا يصر الكثيرون في العالم العربي على المضي بعكس اتجاه عقارب الساعة والإبحار على خلاف اتجاه الريح؟ ولماذا فشلت معظم الأجيال الحالية من العرب في دخول العصر الحديث بمفرداته وآلياته، واكتفت بمظاهره الخارجية دون الغوص في قيمه الإنسانية وإبداعاته الفكرية وشتى مظاهر تقدمه في الطب والهندسة والعلوم والفنون؟ ولماذا تحول الدين الإسلامي الحنيف بكل ما يحمله من مقومات النهضة إلى سبب للانجرار وراء الماضي، بل تحوله إلى مخزون لتثبيط الهمم واختزال الطموح في فكرة الموت؟.
ترى، هل تدرك تنظيمات الإسلام السياسي حجم الجرم الذي ترتكبه بحق أمة هي خير أمة أخرجت للناس؟ أشك في ذلك! فالإسلام الحنيف بريء من الأفكار الدموية وتزييف الوعي ونشر أسباب التخلف والتراجع التاريخي والانحطاط الحضاري، وبريء كذلك من تخلي الكثيرين عن العمل والإنتاج والإبداع سمعاً وطاعة لأناس يريدون استنساخ أشد فترات التخلف والظلامية رداءة في تاريخنا الإسلامي العريق بالأدوات والأفكار والشعارات ذاتها، فلم يعد الكثيرون يناقشون من قضايا تهم المرأة سوى الجدل حول شروط الحجاب والنقاب، ولا يرون في الرجل سوى لحية طويلة وجلباب قصير، وفي الحياة سوى فك السحر وطرد الجان، غارقين في المظهر عازفين عن الجوهر، ولم لا والكثيرون ينامون ويصحون على فحيح الأفاعي عبر خطب متطرفة تارة وعبر الفضائيات وشبكات الإنترنت تارة أخرى، دافعين بالمزيد من الشباب وقوداً في نار اقتتال في العراق أو في سوريا، ولا ندري ما هي محطتهم التالية؟ بعدما تحول «الجهاد» من فريضة دينية لها شروطها وضوابطها إلى «بزنس» ضخم وتجارة رائجة تنتشر عبر ترويج أفكار الوهم وأقراص الأمل والجنة الموعودة، لشباب فشلت دولهم في أن تهيئ لهم مقومات التنمية وأسباب الحياة الحقيقية، وأن تستغل طاقاتهم وإبداعاتهم بشكل مدروس.
لماذا تصادر جماعات الإسلام السياسي على الآخرين حقهم في مناقشة أمور دينهم؟ ولماذا تفرض عليهم رؤيتها القاصرة لدين قال فيه نبي الله (صلى الله عليه وسلم): «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيء مِنَ الدُّلْجَةِ» (رواه البخاري ومسلم)، والأحاديث في هذا الباب عديدة، ولكن «المتنطعين» من علماء الفضائيات في مرحلة تحول فيها بعض الدعاة إلى واجهات تلفزيونية لترويج بضائع فكرية لتنظيمات وجماعات بعينها، بينما ذهب دعاة آخرون إلى حمل ألقاب، مثل «سوبر ستار» الدعوة، و«نجم الدعاة»، وغير ذلك من ألقاب بعيدة عن روح الإسلام وفلسفته.
المشكلة ليست في الحديث في أمور الدين ولا عنها، ولكن في ادعاء احتكار الدين أو مصادرته لمصلحة جماعة بعينها، أو الزعم بأن هؤلاء هم «تنظيم الله المختار»، ولست هنا في مقام تحديد من يتحدث باسم الدين ومن لا يمتلك صلاحية الحديث، لأنني سأكون بذلك قد منحت نفسي حقاً لا يملكه بشر، فالدعوة إلى الله واجب على المسلمين جميعاً والحديث في أمور الدين وتدارسها بشكل عام حق للجميع، وإن كانت المؤسسات الدينية المتخصصة وعلماؤها الأجلاء أولى بحق الفتوى والاجتهاد لأن هناك شروطاً استفاض فيها الشرع فصَّل فيها المجمل وقيَّد المطلق.
شخصياً، أستغرب كثيراً ممن يتجرأون على الفتوى في أكثر أمور الناس جدلاً وحساسية، ويتناسون أن الفتوى تتطلب من القائم عليها امتلاك ناصية علم يستطيع عندها أن يستنبط الأحكام الشرعية من أدلتها، وهذا يتطلب بدوره إتقان علوم القرآن والسنة والفقه وأصوله، ولغة العرب وغير ذلك، ولكننا نلحظ موجات متتالية من ادعاء العلم والفتوى بزعم الاجتهاد، متناسين أن هذا الأمر يتطلب العلم أولاً، ثم الاجتهاد ثانياً. وفوق هذا وذاك كيف لعقلي أن يتقبل فكرة التشجيع على سفك الدماء والاقتتال وتدمير منشآت هي ملك خالص لشعوب مسلمة باسم الإسلام؟ ألم يرسل الله رسله جميعاً لتخليص البشرية من حالات جهالة كهذه؟ أنرضى بأن يشوه بعضنا رسالة الإسلام الحنيف ويربطها بكل ماهو خارج على قيم الإنسانية من قتل وتدمير وتخريب؟ وهل يمكن أن تقبل جموع المسلمين أن يحتكر نفر منهم «ميراث النبوة»، ويتاجروا به في سوق السياسة ويوظفوه لمصالحهم الضيقة؟ ومنذ متى تحول الدين الإسلامي إلى خدمة جماعات، على حين يفترض أن نكون جميعاً في خدمة هذا الدين القويم؟ ألا يدرك هؤلاء أن السياسة تعمل وفق آليات مغايرة للدين؟ فالدين يسمو بالأخلاق والسياسة قد تكون على الخلاف من ذلك. ترى، كيف يشعر هؤلاء بعد أن أصبحت أفكارهم وقوداً للصراع بين المسلمين وسبباً لكراهية الآخر للإسلام، بل تشكك بعض المسلمين في إسلامهم وربما الخروج من عباءته؟ وهنا تحديداً لا يتهمني أحدكم بالمبالغة، فلم أكتب ما هو مغاير للواقع أو مجافٍ للحقائق، ولنرجع جميعاً إلى تصريحات منشورة على لسان أحد مسؤولي دار الإفتاء المصرية، أوائل ديسمبر الماضي، حمَّل فيها التيارات الإسلامية، المسؤولية عن انتشار ظاهرة الإلحاد في مصر بلد الأزهر الشريف وقلعة الإسلام التي تحطمت على أبوابها سيوف الغزاة!